[size=16]إنكم تسمعون كل يوم أحاديث الجد و الهزل ، وفي الخير و الشر ، أحاديث تدعو إلى الوطنيه ، وأحاديث تسمو بالخلق ، وأحاديث فيها متعه و فيها تسليه ، ولكن حديثي الليله أهم من هذه الأحاديث كلها .. لا لأني أنا كاتبه ، أعوذ بالله من رذيلة الغرور ، بل لأنه أمس الموضوعات بكم ، وأقربها إليكم ، ولأنه دعوه لكم لتعرفوا أنفسكم .
لا تضحكوا يا ساده ويا سيدات ولا تظنوا أني أهزل ، ولا تقولوا: ومن منا لا يعرف نفسه؟ فإنه كان مكتوبا على باب معبد أثينه كلمة سقراط ( أيها الإنسان أعرف نفسك ) ومن يوم سقراط إلى هذه الأيام ، لم يوجد في الناس ( إلا الأقل منهم ) من يعرف نفسه !
ومتى تعرف نفسك يا أخي و أنت من حيت تصبح إلى حين تنام مشغول عنها بحديث أو عمل أو لهو أو كتاب !!
ومتى تعرف نفسك و أنت لا تحاول أن تخلو بها ساعه كل يوم تفكر بها ، لا يشغلك عنها تجاره ولا علم ولا متاع ؟
ومتى .. و أنت أبدا تفكر في الناس إلا نفسك ، وتحدثهم جميعا إلا هي ؟
تقول ( أنا) فهل خطر على بالك مره واحده أن تسأل : ( من أنا ) ؟ هل جسمي هو أنا ؟ هل أنا هذه الجوارح و الأعضاء ؟
إن الجسم قد ينقص بعاهة أو مرض ، فتبتر رجل ، أو تقطع يد فلا يصيبك ذلك بنقصان !
فما ( أنا ) ؟
وقد كنت يوما طفلا ..ثم صرت شابا ..وكنت شابا ثم صرت كهلا ، فهل خطر على بالك أن تسأل : هل هذا الشاب هو ذلك الطفل ؟ وكيف ؟ وما جسمي بجسمه ، ولا عقلي بعقله ، ولا يدي هي يده الصغيره ، فأين ذهبت تلك اليد ؟ومن أين جاءت هذه ؟
وتقول : ( حدثت نفسي ، ونفسي تحدثني ) فهل فكرت مره ، ما أنت ؟ وما نفسك ؟ وما الحد بينهما .و كيف تحدثك أو تحدثها ؟
وتسمع الصباح جرس الساعه يدعوك إلى القيام فقد حان الموعد ، فتحس من داخلك داعيا يدعوك إلى النهوض ، فإذا ذهبت تنهض ناداك منك مناد أن تريث قليلا و استمتع بدفء الفراش ، ولذة المنام ، ويتجاذبك الداعيان : داعي القيام وداعي المنام ، فهل سألت ما هذا ؟ وماذاك ؟وما أنت بينهما ؟ وما الذي يزين لك المعصيه ومن يصور لك لذتها ، ويجرك إليها ؟ وماالذي ينفرك منها ويبعدك عنها ؟ يقولون إنها النفس و أنه العقل ، فهل فكرت يوما ما النفس الأمارة بالسوء ، وما العقل الرادع عنه ؟ وما أنت ؟
ويعصف بنفسك الغضب حتى ترى اللذة في الأذى ، و المتعة في الإنتقام ، وتغدو كأن سبعا حل فيك ، فصارت إنسانيتك وحشيه ... ثم يسكت عنك الغضب ، فتجد الألم فيما كنت تراه لذه و الندم على ما كنت تتمناه .
وتقرا كتابا في السيره ، أو تتلوا قصه ، أو تنشد قصيده ، فتحس كأن قد سكن قلبك ملك ، فطرت بغير جناح إلى عالم كله خير و جمال ، ثم تدع الكتاب ، فلا تجد في نفسك ولا في الوجود أثارة من ذلك العالم .
فهل تساءلت مره ما أنا من هؤلاء ؟
أتحسب أنك واحد ، وأنك معروف ، و أنت جماعه في واحد ! ، و أنت عالم مجهول ؟ ، كشفت مجاهل البلاد ، وعرفت أطباق الجو ، ولا تزال أنت مخفيا ، لم يظهر على أسرارك أحد ، فهل حاولت مره أن تدخل إلى نفسك فتكشف مجاهلها ؟
نفسك عالم عجيب ، يتبدل كل لحظه و يتغير ، ولا يستقر على حال ، تحب المرء فتراه ملكا ، ثم تكرهه فتبصره شيطانا ، وما ملكا كان قط ولا شيطانا ، وما تبدل ، ولكن تبدلت حالة نفسك .. وتكون في مسره فترى الدنيا ضاحكة حتى أنك لو كنت مصورا لملأت صورتها على لوحتك بزاهي الألوان ، ثم تراها و أنت في كدر ، باكية قد غرقت في سواد الحداد ، وما ضحكت الدنيا قط ولا بكت ، ولكن كنت أنت الضاحك الباكي .
فما هذا التحول فيك ؟ واي أحكامك على الدنيا أصدق ؟
وتكون وانيا ، واهن الجسم لا تستطيع حراكا ، فإذا حاق بك الخطر ، أو هبط عليك فرح ، وثبت كأن قد نشطت من عقال ، وعدوت عدو الغزال ، فإين كانت هذه القوة الكامنة فيك ؟ هل خطر على بالك أن تبحث عن هذه القوة فتحسن إستغلالها؟ هل تساءلت مره عندما تغضب أو تفرح فتفعل الأفاعيل ، كيف إستطعت أن تفعلها ؟
إن النفس يا أخي كالنهر الجاري ..لا تثبت قطرة منه في مكانها ، ولا تبقى لحظة على حالها ، تذهب ويجيء غيرها ، تدفعها التي هي ورائها ، وتدفع هي التي امامها ، في كل لحظة يموت واحد ويولد واحد ، و أنت الكل ، أنت الذي مات و أنت الذي ولد ، فابتغ لنفسك الكمال أبدا ،واصعد بها الى الأعالي ، و أستولدها دائما مولودا أصلح و أحسن ، ولا تقل لشيء ( لا أستطيعه ) فإنك لا تزال كالغصن الطري ، لأن النفس لا تيبس أبدا ، ولا تجمد على حال .. ولو تباعدت النقلة ، وتباينت الأحوال .. إنك تتعود السهر حتى ما تتصور تعجيل المنام ، فماهي إلا أن تبكر المنام ليالي حتى تتعوده ، فتعجب كيف كنت تستطيع السهر ! ، وتدمن الخمر حتى ما تظن أنك تصبر عنها ، فماهي إلا أن تدعها حتى تألف تركها ، وتحب المرأه حتى ما ترى حياة إلا بها ، فما هي إلا أن تسلوها حتى تعجب كيف كنت تحبها ، فلا تقل لحالة أنت فيها ، لا أستطيع تركها ، فإنك في سفر دائم ، وكل حال لك محطة على الطريق ، لا تنزل فيها حتى ترحل عنها .
فيا أخي أعرف نفسك ، و أخل بها ، و غص على أسرارها ، و تساءل أبدا ، ماالنفس ؟ و مالعقل ؟ و ما الحياة ؟ وما العمر ؟ وإلى أين المسير ؟
ولا تنسى بأن من عرف نفسه عرف ربه ، وعرف الحياة ، وعرف اللذة الحق التي لا يعادلها لذة ،و أن اكبر عقاب عاقب به الله من نسوا الله أنه أنساهم أنفسهم !
صو روخواطر
[size=16][b]الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله [/size][/size][/b]